عوائق تلوث الصف... وتعطل النصر
كتبه/ وائل سرحان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -جلَّ شأنه وتباركت أسماؤه-: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة:1-2)، و(لا)
في الآية مؤكدة للقسم، واقتران النفس اللوامة بيوم القيامة في القسم يُشعر
بأنهما على درجةٍ متقاربة من العظمة والمكانة، فهذه النفس اللوامة هي جهاز
المناعة ضد آفات النفس وأمراض القلب التي تعتري الإنسان، "هذه النفس
اللوامة المتيقظة التقية الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها وتتلفت حولها،
وتتبين حقيقة هواها، وتحذر خداع ذاتها هي النفس الكريمة على الله" (الظلال).
وهذه
النفس التي تلوم على الخير والشر قد تكون نفس فرد تحاسبه وتعاتبه، وقد
تكون ضمير الجماعة الدعوية أو أحد أبنائها ينقد دعوته ناصحًا لها، مقوِّمًا
لمسارها، ولا ينبغي أن ينظر بعين الريبة إلى مَن يقوِّم دعوته وينصح لها
رغبة في بلوغها مقصدها.
"تظل
الدعوة بحاجة ماسة إلى المراجعة والتقويم والترشيد، وليس مما يعيب الدعوة
في شيء أن تعالج مشكلاتها المنهجية والوسائلية، وأن يشيع العاملون بها
ثقافة "النقد الذاتي"، بعيدًا عن الحساسيات المفرطة والذاتية المعوِِّقة،
بل ليست الدعوة ببالغة مناها إلا بممارسة هذا الواجب متى اكتملت الشروط
الشرعية فيه".
وهذا
التلوم أو النقد الذاتي من هدي سلف الأمة؛ حتى مع قادتهم، فعن أبي سعيد
الخدري -رضي الله عنه- قال: لما أصاب رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-
الغنائمَ يوم حنين، وقسّم للمتأَلفين ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شيء
قليل ولا كثير، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى قال قائلهم: لقي
-واللهِ- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه. فمشى سعد بن عبادة إلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد
وجدوا عليك في أنفسهم... فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟) قال: "ما أنا إلا امرؤ من قومي". (رواه أحمد، وصححه الألباني).
فلا بد إذن من الصراحة والوضوح حتى مع القادة أنفسهم؛
فسعد بن عبادة -رضي الله عنه- يصارح النبي -صلى الله عليه وسلم- قائده
ومعلمه، وتتجلى هذه الصراحة وذلك الوضوح أروع ما يكون حينما يسأل رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- سعدًا: (فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟) فيجيب -رضي الله عنه-: "ما أنا إلا امرؤ من قومي"؛ أي: أن قولهم هو قولي.
لم
يتزلف سعد قائده ومعلمه حتى لا يغضب عليه أو ليتخذ عنده مكانًا عليًّا،
إنما نصح له فالدين النصيحة، لم يربِ النبي -صلى الله عليه وسلم- سعدًا
تربية العبيد؛ إنما تربى سعد تربية القادة "إن هذه الصفات والخصال الحميدة
لا يجيدها إلا النادر من التلاميذ والأتباع، ولا يتقبلها إلا القليل من
القادة".
هذه
الصراحة في معالجة الأخطاء أو النقد الذاتي يحمي الدعوة من عوامل الهدم
الداخلية التي غالبًا ما تكون أشد خطرًا من عوامل الهدم الخارجية؛
لاشتباهها والتباسها بالحق أو الهوى، وهي أهم عوامل تأخر النصر... هذه
الصراحة في معالجة الأخطاء الداخلية هي هدي "القرآن الكريم" في تربية الجيل
الأول، فلما اختلف الصحابة بعد أن منَّ عليهم يوم الفرقان أنزل الله
-تعالى- قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأنفال:1)، ففي الآية صراحة ربما تكون مؤلمة للبعض، لكن الصف المسلم ساعتها يحتاج إلى ذلك حتى لا تتفاقم الأخطاء.
ولقد
وعد الله المؤمنين بالنصر يوم "أحد"، لكنهم هزموا، وكان السبب من داخل
الصف المسلم فنزلت آيات الذكر الحكيم توضح سبب الهزيمة وتخلف النصر، ولم
تكن هناك مجاملة للمؤمنين -وهم يومئذ خلص المؤمنين-، قال -تعالى-: (أَوَلَمَّا
أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى
هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165)، وهذه الآية تحمل معاني الإنكار والتوبيخ، والتقريع والتبكيت، وتُبيِّن أن "الوعد كان مشروطًا بالثبات والمطاوعة" (تفسير القاسمي).
وفي يوم "حنين" تنزل الآيات تبيِّن أن الإعجاب بالقوة والكثرة هو سبب ما حدث، قال -تعالى-: (وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم
مُّدْبِرِينَ) (التوبة:25)، وغيرها من الآيات التي لا تتسع لها هذه العجالة.
ولو
أنعمنا النظر في الآيات السابقات لرأيناها تعالج أخطاء الأتباع، فكثيرًا
ما ينتبه الناس لأخطاء القادة ويتغافلون عن آفات الأتباع والصف الداخلي
التي ربما تكون سببًا رئيسًا في أخطاء القادة، فكما قال الحسن: "أعمالكم
عمالكم"، كما أن معالجة أخطاء القادة لا بد لها من فقه كقوله -صلى الله
عليه وسلم-: (أَقِيلُوا ذَوِيِ الْهَيْئَاتِ زَلاتِهِمْ) (رواه ابن حبان، وقال الألباني: صحيح لغيره). فضلاً عن أن تكون خطأ نتج عن اجتهاد وليس زلة محضة، كما أنه لا يتمكن كل أحد من نصح القادة.
إن الناظر بعين البصيرة لظاهرة الصحوة الإسلامية في هذا العصر على تعدد اتجاهاتها، يجد كثيرًا من الظواهر المَرَضِيّة المتفشية...
وعلى جميع المستويات العاملة بها، والصحوة الإسلامية تمثِّل طليعة الأمة
ونواة التغيير فيها، والدعوة السلفية هي عماد الصحوة الإسلامية المعاصرة،
وقاعدتها القوية؛ لذلك فإن هذه الدعوة المباركة، تتحمل تبعات جسام في مسيرة
الإحياء الإسلامي الجديد، تستدعي من أبنائها وأهلها أن يكونوا على قدر هذه
التبعات.
إلا
أن ميدان الدعوة الهام قد يدخله وينتسب إليه نفر ليسوا على المستوى
المطلوب علمًا وتربية وسلوكًا، وقد ينزلقون في خضم دعوتهم إلى أخطاء
وملاحظات قد تنعكس سلبًا على هدف الدعوة السامي، وغياب التربية الإسلامية
المتكاملة لدى الكثيرين آفة خطرة تعوق حركة المنهج الإسلامي؛ فلا ينبغي أن
نهتم بزيادة الأتباع، أو المسابقة على اقتناص المواقع في المجتمعات على
حساب الكيف، ولا ينبغي أن نهتم بتنمية المهارات الحركية لأبناء الدعوة على
حساب فهم المنهج وإصلاح النفوس والتخلص من آفات القلوب، وعلى حساب الأنس
بالله -عز وجل-، فعلى الدعوة أن يَنصب جلّ اهتمامها على إيجاد الربانيين
الذين يقول عنهم ابن جرير: "الربانيون هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور
الدين والدنيا".
أين
هؤلاء الربانيون أصحاب القلوب الهينة اللينة... ذوو النفوس الخاشعة
والعيون الدامعة مما يعاينه أبناء الصحوة من قسوة في القلوب، وغلظة في
الطبع، وجفاف في السلوك، وتفريط في العبادات كمًّا وكيفًا؟!
إن كثيرًا من الآفات والأمراض التي تصيب العاملين في حقل الدعوة الآن يجمعها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ائْتَمِرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ
شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ
كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ
الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ
الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ
رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ) (روه أبو داود والترمذي، وحسنه الحافظ ابن حجر وغيره، وضعفه الألباني). وفي حديث أنس قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ... وأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه) (رواه البزار والطبراني، وحسنه الألباني).
ففي
الحديث إشارة إلى أن زمن القبض على الجمر هو زمن الشح المطاع، والهوى
المتبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، "وهذه الخصال الأربع بينها ارتباط وصلة،
وكذلك شأن أمراض القلوب؛ فغالبًا ما تجد الشح واتباع الهوى وإيثار الدنيا
والعجب مجتمعة كلها في حالة مرضية واحدة، وقد يعافى المرء من تلك الثلاثة
الأُوَل، إلا إعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فهي أشدها، وهي التي منها المعاناة
عند الخلاف".
لقد
فسدت أعمال دعوية كثيرة، وتعطلت الدعوة في أماكن عدة واختلف أبناؤها
وتناحروا ولم يكن ذلك إلا من "إعجاب كل ذي رأي برأيه". قال علي -رضي الله
عنه-: "الإعجاب آفة الألباب". وعن مسروق: "وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب
بعمله" (جامع بيان العلم).
فمن أُعجب برأيه فلن يتبع الحق مهما كان واضحًا،
فطبيعة متبع هواه والمعجب برأيه إذا علم أن رأيه خطأ ألا يتنازل عنه ولا
يعترف بالحق، بل يتمسك بخطئه ويصر عليه، ويأنف من الرجوع للحق، فاتباع
الهوى يصد صاحبه عن الاستجابة للحق، قال -تعالى-: (فَإِنْ
لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص: 50).
وقال
علي- رضي الله عنه-: "إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، أما
اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة".
قد
يتسرب الداء إلى الداعية من باب عدم جلد الذات، وقد يكون ذلك هروبًا من
مواجهة النفس، ويطول عليه الأمد فيحسن الظن بنفسه ويعجب برأيه،
"فالمرء منا يلحظ عيوب غيره، ويغفل عن عيوب نفسه فيحسن الظن بها، ويخالها
خيِّرة صفية، وما يدري أن في ذلك هلاكه، وكذلك تُستدرَج الجماعات والأمم؛
فحين يتسرب إلى نفوسنا هذا النوع من الوثوق المغرِّر، والطمأنينة الخادعة
فإننا نتواكل على صلاح موهوم، ونركن إلى استقامة منتحلة!".
قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا" (رواه الإمام أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس).
فحسن
الظن بالنفس فضلاً عن الإعجاب بها وبالرأي ليس من هدي سلفنا الذين جعلنا
منهجهم شعارًا، فقد كانوا يمقتون أنفسهم في جنب الله -تعالى-؛ حتى لا يرى
أحدهم نفسه إلا شرًّا من المسلمين أجمعين. فهذا مطرِّف يقول -في دعائه
بعرفة-: "اللهم لا تردَّ الناس لأجلي" (محاسبة النفس). وقال بكر بن عبد الله المزني: "لما نظرتُ إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غُفِرَ لهم لولا أني كنت فيهم" (محاسبة النفس). ولما احتُضر سفيان الثوري -وما أدراك ما سفيان- يقول لحماد: "أتطمع لمثلي أن ينجو من النار؟!" (محاسبة النفس). يخطئ مَن يحسب أن مقته لنفسه إهدار لمكانته، فيدع ذلك بدعوى اتقاء تجرؤ السفهاء.
وهذا
الإعجاب بالرأي أو رؤية النفس -أو عبادتها أحيانًا- كثيرًا ما يقترن برؤية
العمل، فالعامل "يعرض له في عمله ثلاث آفات: رؤيته وملاحظته، وطلب العوض
عليه، ورضاه به وسكونه إليه" (المدارج)،
وهذا من عوائق الطريق إلى الله -تعالى- فـ"بين القلب وبين الرب مسافة،
وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه، من كبر وإعجاب وإدلال، ورؤية العمل،
ونسيان المنة" (المدارج).
كثيرا
ما يفاخر المرء منا بسبقه في الدعوة وقدمه فيها، وبأعماله وجهده وتفانيه،
وكثيرًا ما يلقي باللائمة على أولئك الذين تجرؤوا عليه ولم يحترموا سنه
وبذله وسبقه (فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم:32)، (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ) (النور:21).
والعجب
باب الكبر... فإبليس أعجب بأصل خلقته فأبى واستكبر وكان من الكافرين،
والإعجاب بالرأي والهوى المتبع قرينان؛ فـ"الهوى ظلمة تحرمك الرؤية؛ وإن
ملكتَ آلة الإبصار، فكأن نور العلم أضعف من أن يخترق حجاب الهوى". قال
-تعالى-: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ
اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) (الجاثية:23).
فالهوى يعمي ويصم، وهو سبب للغشاوة: (أَفَرَأَيْتَ
مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ
وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً
فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية:23)، ومن اتبع الهوى كان أمره ضائعًا: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف:28)؛
لذلك روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعاذ من ذلك الهوى فقال: "اللهم
ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي"؛ فالرشد هو العلم بما ينفع، وشرور النفس
هو ظلمها، وهو اتباع الهوى.
و"صاحب
الهوى لا حكَمَةَ له ولا زمام، ولا قائد له ولا إمام، إلهه هواه، حيثما
تولت مراكبه تولى، وأينما سارت ركائبه سار"، فلا يسمع لكلام داعية ولا قائد
ولا عالم إلا ما وافق هواه، ولا يعمل من الأعمال الدعوية إلا ما يوافق
رغبته وهواه أو ما يجد فيه نفسه، وما لا يهواه فهو عنه معتذر وله ناقد،
و"تراه معتزلاً كل من يخالف هواه، وإن كان أهدى سبيلاً، مقربًا لكل من هو
على شاكلته وإن كان للشيطان قبيلاً"، "لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا
ما أشرب من هواه".
و"صاحب
الهوى ليس له معايير ضابطة، ولا مقاييس ثابتة"، فــ"إذا غلب الهوى على
القلب، استحسن الرجل ما كان يستقبحه"؛ لذلك يتبرم من أمر النصيحة، يتصنع
أحيانًا لقبولها، ولا يقبل منها إلا ما كان موافقًا لغرضه وهواه، فيمنعه
الهوى عن قبول نصح المخلصين، ويستفحل أمر عدم قبول النصح عند من تقادم عهده
في الالتزام -واشتهر لقدمه في الدعوة- ولم يأخذ حظه من العلم أو تربية
النفس.
ولأن
الإعجاب بالرأي واتباع الهوى قرينان تراهما مشتركين في شق الصف وإحداث
الفرقة بين أبناء الدعوة؛ ولأن الهوى يصد عن الحق كان هو باب البدعة؛ لذلك
اقترنت البدعة بالهوى فتراهم يقولون: أهل الأهواء والبدع.
وصنف
آخر أحسبه من أصحاب الأهواء المعجبين برأيهم وهم طائفة نبتت فرأت المشايخ
صغار السن وأذعنت لهم الناس فلم يفهموا من طلب العلم إلا ذاك، فتقمصوا دور
المشيخة، ولم يفهموا أنهم يخاطبون أنفسهم بهذا العلم، لقد حذرنا الدعاة إلى
الله في بداية التنسك والطلب أن يدعو المرء لنفسه -وهو يدري أو لا يدري-
وهو يدعو إلى الله، أو أن يكون همه هو أن يشار إليه بالبنان، وألا يستغل
الدعوة وطلب العلم لمصلحة شخصية، أو منفعة دنيوية.
وصنف
قريب من الصنف السابق وهم هؤلاء الذين تعلموا وتربوا على يد "الشبكة
العنكبوتية"، فكانت هي شيخهم ومربيهم وموجههم وصانع أفكارهم وباني
شخصياتهم، شباب غض الإهاب وجد نفسه يناظر ويعلق ويبدي برأيه ويتكلم في
ملمات ونوازل لو عرضت على عمر لتهيبها وجمع لها أهل شورته، لكنه غرته صوره
-على النت- التي صنعها بنفسه في بيته أو مكان لهوه وصدقها وفرح بها، أو
غرته كنيته التي كنى بها نفسه.
هؤلاء
غير ذلك الصنف السابق الذين تحدث عنهم أهل العلم قديمًا في ظاهرة التعالم،
هم صنف آخر شيخه هو نفسه بعد (نتّه)، لا يسمع لأهل العلم ويعترض عليهم هنا
وهناك، ويصوب بعضهم ويخطئ آخرين، وهو لم يحصِّل بعد فروض الأعيان، ولا
يحسن أن يصلي أو يتوضأ أو يقرأ القرآن، لم يقرأ يومًا كتابًا ولا جلس إلى
شيخ، وتجده ينعق بما لا يفهم، ولمَ لا إن له رأيًا لا بد أن يحترم!
وربما
زاد الأمر سوءًا ونفذ هؤلاء لأماكن ما كان ينبغي أن يمروا بجوارها فضلاً
عن أن يكونوا أربابها، في غفلة من القادة والدعاة فرضتها عليهم ظروف
المرحلة، هكذا زعموا.
بل
من هؤلاء من يسقط بعضهم في مهاوي الرذيلة سرًّا، قاده شيخه (النت) إليها،
فلا يجد من ينتشله من هذا التردي سوى التخفي خلف صلاح الظاهر بحجة "إذا
بليتم فاستتروا"، فتكثر البلوى في الخلوة، ولا تكاد تبين في الجلوة، وبدلاً
من الشروع في علاجها وتداركها تراه يستتر عليها من الناس دون الله -عز
وجل-، ونظرة إلى فتاوى بعض المواقع الإسلامية التي لا يزورها غالبًا إلا من
كان ينتسب إلى صفتها تنبيك عن حالنا، أسأل الله العفو والعافية.
وهناك نوع من الهوى يتسرب إلى الدعاة إلى الله -تعالى- لا أجد تعبيرًا له أوضح من قوله -تعالى-: (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة:58)،
لا ينبغي أن نتعامل في دعوتنا بهذا المبدأ المذموم، فتجد من أبناء الدعوة
من هو ساخط عليها ناقم على قادتها، وذلك لأنه لم يولَ عملاً من الأعمال
الدعوية، أو لم يفسح له مجال ما يصبو إليه، أو لم يعطوا له مكانًا، فإذا
أعطي يومًا ذلك المكان أو فسح له المجال تراه يتغاضى عما كان عنه بالأمس
ساخطًا وتجده عنه اليوم مدافعًا، ويستقبح ما كان له مستحسنًا!
وبعضهم
يفعل العكس، فإذا منع من أمر كان به ظاهرًا سخط وبدأ يسطر ملاحم التجاهل
والإقصاء والاستبعاد، وقتل الكفاءات وعدم استغلال الطاقات أو اكتشاف
المواهب أو عدم الوفاء أو احترام السبق.
وما
سبق من دواخل الهوى مختلط مع الدنيا المؤثرة التي هي سبب الوهن والضعف
الذي أصاب أمتنا في زمن صحوتنا، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- مبينًا سبب
ضعف الأمة وهزيمتها وهوانها على عدوها رغم كثرة عددها (يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا). قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (أَنْتُمْ
يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ،
تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي
قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ). قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
وحب
الدنيا ليس شرطًا أن يكون حب المال والمناصب التي تجلب له التالد والطريف،
إنما قد تكون وجاهة ومنزلة في قلوب الخلق، أو قربة من المشايخ وأهل العلم،
أو شيئًا مما يجد فيه نفسه وبه يُرضي غرورها، فلنحذر أن نبتغي بالدعوة
الوجاهة والشرف ورؤية الخلق وثناءهم.
جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: (لا وَاللهِ، مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، إِلَّا مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا).
وها هي بعض من زهرة الدنيا فتحت علينا من مناصب حزبية وقنوات فضائية،
ومواقع إليكترونية، ومجالس نيابية، وصحافة وإعلام، وتصوير وكاميرات، فهل
تحسس كل منا قلبه، وحرس خواطره، ومحَّض نيته، ولم يبتغِ عرضًا من الدنيا
قليل، ومن فقدها... هل تمناها وصبت إليها نفسه؟ نسأل العفو والعافية.
لقد كان حب الدنيا سبب هزيمة أفضل جيل عرفه التاريخ وفيهم محمد
-صلى الله عليه وسلم-، رغم أن ذلك كان من بعضهم ولم يكن أمرًا عامًّا
متفشيًا فيهم حتى ما كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يتوقع أن يكون
من بينهم من يريد الدنيا، ومع ذلك عوتبوا وبُكتوا على ذلك، ونزلت الآيات
توضح لهم السبب دون مجاملة قال -تعالى-: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ) (آل عمران:152).
إن اتباع الهوى صفة من يصد عن سبيل الله -تعالى- وهو طريق الردى، قال -تعالى-: (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) (طه:16).
وإن
صاحب الهوى خطر على الدعوة ومستقبلها فهو تسهل استمالته من قِبَل أعدائها
والمتربصين بها الدوائر، فسرعان ما يرتد خنجرًا في خاصرة الدعوة، داعيةً
لتثبيط العزائم.
من
أجل خطورة الهوى وما يسبقه ويلحق به أو يتداخل معه من الأمراض ومن أجل أنه
من العوائق الداخلية التي تلوث الصف وتعطل النصر قال ابن تيمية -رحمه
الله-: "جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على
جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه".
إنها عوائق في طريق الجهاد والنصر...
والحمد لله رب العالمين.